تشريع التبني عود إلى استرقاق البشر.

األستــاذ: فتحـي بن مصطفــى الخميــري باحث في القانــون ومحام لدى التعقيب. عضو المجلس العلمي لهيــأة المحامين رئيس الجمعية التونسية لحقوق الملكية الفكرية

الحمد هلل وحده،

 بثت قناة فرانس 5 » F5 « مساء يوم الثالثاء 12/04/2016 برنامجا وثائقيا مثيرا يحمل عنـــوان « الواليــــات المتحــــدة، األطفــــال المهملـــــون » – أو المعرضــون لإلهمــــال – « jetables enfants les, Unis-Etats Les ،« وقد كشف هذا البرنامج وجود كارثة حقيقة ناجمة عن ظاهرة تبني األطفال وما ينجر عن تلك العملية من المخاطر والمهالك التي تستهدف الصنف األضعف في المجتمع. .(Le marché de l’enfant d’occasion) « األطفال تجارة سوق « ظهور: أوال « إحالة التبني » أدت إلى ظهور سوق جديدة و لقد أكد البرنامج المذكور أن عمليات « التبني » لتسويق األطفال، فالعائالت التي تفشل في إدماج الطفل المتبنى لصعوبة في المزاج وعدم االنسجام تسعى إلى التخلص منه بكل الطرق وذلك بمجرد نشر إعالن على صفحات النات أو تكليف « وكالة مختصة » تتولى البحث عن « مشتر جديد » وذلك بمبلغ مالي ال يقل عن )5000 دوالر( لقاء أتعاب ومصاريف اإلجراءات في عملية نقل الطفل من « مالك » إلى « مالك آخر ». وتطلق على هذه العملية تسمية (Rehoming (التي تعني إحالة الطفل المتبنى إلى الغير (réadoption La.( وكشف البرنامج األمراض النفسية الحادة التي تلحق األطفال ضحايا تلك الممارسات من خالل متابعة حاالت واقعية وشهادات ألطفال تؤكد عودة ظاهرة تجارة الرقيق تحت عنوان « التبني » أو « إعادة التبني » (réadoption la adoption’L (وأفادت اإلحصائيات الرسمية، حسب ما نقله البرنامج، تعرض أكثر من 25 ألف طفل سنويا إلى اإلهمال من قبل العائالت المتبنية التي تحيل « ملكيتهم » إلى مالكين جدد. وقد أظهر الشريط الوثائقي أن عملية تسويق األطفال في نطاق صفقة « إعادة التبني » يتم بواسطة قاعات مختصة في عرض األطفال المهملين، تماما مثل عرض أزياء الموضة، يقع فيها إحضار العائالت المرشحة لقبول « المتبنى » أو باألصح الراغبين في الشراء واسترقاق الطفل المهمل والمعروض للبيع، وتتم جميع تلك العروض لقاء ثمن بخس يسند لفائدة العائلة العارضة أو الوكالة المنظمة لتلك العروض…!! لكن األخطر من ذلك أن هذا القطاع الذي بات يستثمر في مجال تقديم « خدمات التبني » قد اقتحمته شبكات الدعارة وتجارة األطفال (Pédophilies (فأصبح بعضهم يعرض في السوق السوداء السيما منهم الفتيات الالتي يتم اقتنائهن وتسخيرهن لتعاطي البغاء وتجارة الجنس. 2 وقد عرض البرنامج حاالت واقعية مثيرة لالستغراب من خالل استجواب فتيات في عمر الزهرات تعرضن جميعهن إلى االستغالل الجنسي سواء من قبل « األب المتبني » أو من قبل « شركات التمعش الجنسي » من تلك التجارة السيما منها صناعة األفالم اإلباحية. وقد كشفت تحقيقات البرنامج المجراة على عينة من هؤالء األطفال أن أغلبهم أصبح ينتظر مصيرا مجهوال وبات يعامل مثل أي طرد يرسل من عائلة إلى أخرى وال يعرف لنفسه مستقرا وال مبيتا ثابتا وقد عبر بعضهم في وصف تلك الوضعية بقوله « إنني مصاب بالخوف الدائم، إنني لم أعد أعرف مع من سأستقر وال إلى أي بلد سيتم ترحيلي، إنهم يرسلونني هكذا إلى أي شخص كما لو كانوا يرسلون طردا عبر البريد… لقد كنت مجرد شيء يتم بيعه إلى مجهولين… »!!! « J’avais peur, je ne savais pas avec qui j’allais habiter, ni dans quelle ville, j’étais envoyée comme ça, à n’importe qui, comme on envoie un colis par la poste… j’étais un objet qu’on vendait à des inconnus… ». هذه حالة الطفولة وأوضاع األطفال في بالد تزعم أنها رائدة الدفاع عن حقوق اإلنسان، وقد أصبح فيها الرق مقننا ويندرج ضمن قطاع الخدمات واالستثمار الرأسمالي الذي لم يترك شيئا إال وظفه صلب قيمة مالية قابلة للتداول والتسويق (marchandisation .( من خالل هذا المشهد نقف مرة أخرى على السقوط األخالقي لهذا النظام الرأسمالي المتح كم في رقاب الناس، فهو يعيد استرقاق البشر الذين ولدوا أحرار تحت الديمقراطي الد جال عناوين ومنظومات قانونية مزخرفة، تماما مثل الشيطان الذي يوحي ألتباعه زخرف القول ويزين ْدِ لهم سوء األعمال  » ه َ هّللُ الَ ي ا َ و ْ م ِِ اَل َ ْعم أَ ُ وء ُ ْ س ُم ََل َ ِن ه ي ُ ز هّللُ ا َ رم َّ َ ا ح َ ْ م وا ُّ ِحل ُ فَ ي َ ِرين ِ الْ َكاف َ م ْ ي الَْقو  » )سورة التوبة اآلية 37.) وهذه الوضعية تقوم شاهدا على أنه مادامت صالحية التشريع مفت ة لصالح القوى ك الرأسمالية المتنف ذة فإن جميع القوانين سوف تكون مترجمة لألهواء والمصالح الضيقة ثم تنتهي بالمآسي ويكتوي الناس بنار جحيمها  » ْ َن م َ َ و م ْ َو ي ُ ه ُ ََنْ ُشر َ َشةً َضن ًكا و ي ِ ع َ م ُ ن لَه َّ ِ ْكِري فَإ َن ذِ َ َض ع ْعر أَ َى ْعم أَ ِ ة َ ام َ ي ِ الْق  » )سورة طه اآلية 124.) ثانيا: وضعية التبني في القانون التونسي. أمام استفحال ظاهرة استغالل األطفال واسترقاقهم تحت عنوان « التبني » أو « إعادة التبني » تعالت بعض األصوات في الواليات المتحدة األمريكية المنادية بضرورة حظر التبني أو على األقل من عملية « إعادة التبني » حماية للطفل، وصونا له من الوقوع في شبكات االستغالل واالسترقاق، وهكذا فإن البشرية بعدما عانت من فساد التشريعات الوضعية تفيق على المصير المفجع وتنادي بالرجوع إلى قوانين تنسجم مع الصالح ومع العدالة وهي فطرة هللا التي فطر الناس عليها  » ْ م ِ فَأَق ُ ين هدِ َك ال ِ َذل َلِْق ا َّّللِ ِلِ َ يل ْدِ ب َ ا َال ت َ ْه لَي َ َس ع َّا الن َ ِِت فَطَر َّ ال ةَ ا َّّللِ َ طْر ِ يًفا ف ِ ن َ ي ِن ح هدِ ل ِ َ َك ل ْه َج و َ َر ن أَ ْكث َّ لَكِ َ و ُ ِم ه الَْقي و ُ لَم ْ ع َ َّا ِس َال ي  » )سورة الروم آية 30َ .)ن الن لكن يعترض مناصرو التبني على فكرة حظره بحجة أن هذا التبني هو حل اجتماعي لألطفال األيتام أو فاقدي السند العائلي!!! وفي هذا السياق ال تزال بالدنا، وهي البالد الوحيدة من دون بقية البلدان العربية واإلسالمية، تتمسك بهذه المؤسسة الفاسدة والتي تم تقريرها بمقتضى القانون عدد 27 لعام 1958 3 المؤرخ في 4 مارس 1958 والمتعلق بالوالية العمومية والكفالة والتبني )منشور بالرائد الرسمي 19 الصادر في 7 مارس 1958 صفحة 306 .)وقد وقع إدماج هذا القانون صلب مجلة األحوال الشخصية وأصبح ملحقا ومتمما ألحكامها. لقد كشف اعتماد هذا القانون ظهور مفاسد عديدة بالنظام األسري باعتبار أن التبني يؤدي إلى انتهاك الحرمات داخل العائلة حينما يلحق بها طفل ليس من صلبها ويصبح بعد ذلك شابا يعيش مع عائلة أجنبية عنه، كما أنتجت تلك العملية صدامات نفسية حادة في جانب الطفل الذي يكتشف حقيقة نسبه من األسرة المتبنية وصلت إلى حد ارتكاب أبشع الجرائم، وباإلضافة إلى ذلك فإن هذا القانون سيء الذكر يجيز للرجل أو المرأة المتزوجة بأجنبي أن تتبنى أطفاال وهو األمر الذي يعرض الطفل إلى مصير مجهول حين السفر به إلى الخارج ويصبح في منأى عن أي متابعة أو رقابة. أما على مستوى فقه القضاء، فإنه يتعامل مع قانون التبني بكل احتراز وباتت أغلب األحكام القضائية الصادرة في هذه المادة تسعى إلى تالفيه دون التصادم معه وذلك عن طريق التشدد في شروط االستجابة إلى مطلب التبني كما وقع التوسع في حاالت الطعن بالمراجعة في حكم التبني وفق ما تقتضيه مصلحة الطفل. وهكذا، فإنه من خالل استقراء أحكام فقه القضاء الصادرة في هذه المادة، يمكن القول أن أغلب هذه األحكام تستبطن رفضا مقن عا العتماد مؤسسة التبني من قبل غالبية القضاة، لكن المعلوم أن القضاء في ظل منظومة القانون الوضعي مطالب بتطبيق القانون ولو كان ظالما، بحيث يصبح القاضي مزدوج الشخصية، فهو حين يمارس شخصيته الوظيفية يطالب بتطبيق القانون، وحين يعود إلى شخصيته الطبيعية يمكن له التعبير عن معارضة ذلك القانون لكن خارج أروقة المحاكم. وهو موقف يكشف مرة أخرى فساد منظومة التشريع الوضعي في تعاملها مع القضاء.

ثالثا: تحريم التبني في المجتمع اإلسالمي. لقد كان التبني عادة سائدة في عصر الجاهلية، لكن منذ السنوات األولى لقيام الدولة اإلسالمية في المدينة حرص المشرع الح ق على تحصين المجتمع من جميع مظاهر الظلم والحيف، فبادر إلى إبطال تلك العادة بنص قطعي الثبوت قطعي الداللة على حكم التحريم المطلق، وقد استهدفت آية التحريم )سورة األحزاب، آية 4 )شخص الرسول الكريم مباشرة حتى يكون انطالقا ومثاال للتنفيذ الفوري فأمر هللا تعالى رسوله بقطع اإللحاق لشخص زيد بن حارثة الذي تبناه قبل النبوة وأمره بضرورة رد نسبه إلى أبيه الحقيقي. وبذلك رفض اإلسالم االدعاء القائل بوجود أب بالتبني، ولم يعترف إال باألب من الصلـب ألن هــذه حقيقــة مطابقــة للواقــع، وتلــك أكذوبة وغـش ال واقع له. وهذا المنهج في معالجة ظاهرة التبني تندرج ضمن السياق العام لألحكام التشريعية التي تنبني على الحق والوقائع الصادقة وليس على الكذب واالدعاء أو الخداع. نعم قد يبدو اللجوء إلى إجراء التبني حال اجتماعيا لكنه حل مغلوط ناجم عن تفكير محدود وا في األرض( فيغتصب صالحية نابع من إرادة الزعامة والتسلط على رقاب الناس )يريدون عل التشريع من الخبير العليم الذي )له الخلق واألمر( ويدعيها لنفسه زورا وبهتانا، فهم مجرد أدعياء كاذبون ود جالون أحاطوا أنفسهم بهالة من التعظيم والتقديس بتسخير صنوف الدعاية اإلعالمية، لكن الحقيقة أنهم مجرد حمقى مه رجين سرعان ما ينكشف سوء خياراتهم وفساد قوانينهم فيسرعون إلى تعديلها أو نقضها واستبدالها بقوانين أخرى جاعلين من أنفسهم )أربابا من دون هللا( أخضعوا 4 الناس إلى مختبرات قوانينهم الفاسدة التي تكتنز مصالحهم وتثبت نفوذهم، فأصبحت تلك القوانين بحسب مقولة الفيلسوف األلماني « فيورباخ » (Fuerbacht » (سحاب دخان يراد به تغطية مصالح خفية ». والمالحظ أن هذا المنهج ينسجم مع واقع الدولة الرأسمالية الديمقراطية التي تتخلى عن مسؤوليتها في رعاية شؤون الناس، فتفضل التف رج والرقابة من بعيد تطبيقا لمبدأ الدولة الحارسة (gendarme Etat (التي ال تتدخل إال لحماية مصالح الرأسماليين المتنفذين أما من عداهم من الطبقات الضعيفة والمهمشة فإنه سرعان ما تتخلى عنهم وترمي بهم إلى المجتمع ليحضنهم ويتبناهم « أهل الخير » و »الجمعيات الخيرية » التي تشجع على إيجادها لملئ فراغ تخليها عن واجب الرعاية لجميع أفراد المجتمع. ٍ أما الحال في منظومة التشريع اإلسالمي الذي يحظر التبني  » م ْ َقو ِ ا له ً ْكم ُ ح هّللِ ا َ ن ِ م ُ ن َ ْس أَح ْ َن م َ و ُون ن ِ ُوق ي  » )سورة المائدة اآلية 50 )فإنه في نفس الوقت يحمل الدولة مسؤولية رعاية منظوريها السيما منهم األطفال فاقدي السند على أساس قاعدة « الحاكم ولي من ال ولي له » ولم يأذن المشرع اإلسالمي إال بإمكانية اللجوء إلى إبرام عقد كفالة طبق شروط محددة ومضبوطة. وهكذا فإن حظر التبني ال يمكن أن يطالب به بشكل منفصل وبمعزل عن جميع معالجات منظومة التشريع اإلسالمي ألن تطبيقها يتطلب وجود الدولة التي تقوم بواجب الرعاية والكفاية لجميع رعاياها، أما النظام الرأسمالي الديمقراطي الذي يتخلى عن ذلك الواجب فإنه يعيد صياغة « نظام الرق » ويجعله مستساغا تحت عناوين مضللة مثل « التبني » و »إعادة التبني » وتشرع له القوانين التي تؤطره وتدعي اتخاذ االحتياطات والضمانات الالزمة، لكنها تبقى مجرد إجراءات جوفاء وشكلية غير قادرة على الوقوف أمام سلطة المال في غياب الوازع الحقيقي لحسن تطبيق القوانين وهو التقوى والخوف من الرقيب األعلى. انتهـــــــــى والســــــالم